بداية التبريد (تتمة)
استكمالا لما بدأناه في سلسلة تعلم 1 عن النبذة التاريخية لبداية التبريد، ومع ألمع علماء القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر؛ تأتي هذه السلسلة تَعلَّم 2 كذلك كسابقاتها متَّبعة منهج استعراض أهم عباقرة التبريد الصناعي؛ وكما قلت لكم من قبل، أنَّ أي عِلم يجب أن يبدأ من بدايته الأولى، حتى يتسنى لنا الإلمام به ومعرفته من جذوره ويسهل علينا معرفة حاضره.
1) التبريد الصناعي العَملي
كما رأينا في الجزء الأول، أن اختراع ما يُعرف بالتبريد الصناعي مرَّ عبر مراحل مُتدرجة، فمن عهد السيد وليام كولين عام 1756م والذي يُعتبر الأب الشرعي لأول وِلادة لثلج صناعي؛ وإن كانت لم تُقبل منه في تلك الفترة نظرا لصعوبة استعمالها، وكذا خطر المواد المتفجرة التي تُستعمل في عملية التبريد.
لكن بعد مرور مائة عام، ظهرت للوجود أجهزة فعَّالة شيئا ما، إذ يمكن استعمالها للتبريد الصناعي والتجاري والمنزلي، وذلك بفضل ظهور علماء استطاعوا تطويرها وتحسين أدائها مثل:
- 1856م السيد جيمس هاريسون (James Harrison 1816-1893) الذي كان طابعا للصحف، وتحول فجأة للمخترع آلة التبريد؛ فكيف حدث ذلك؟
أ- جيمس هاريسون
ولد جيمس هاريسون بمدينة بُونْهِيلْ الإسكتلندية عام 1816م، وانتقلت العائلة إلى غَلاسِكو حيث تدرَّب على الطباعة، وأخذ دروسا ليلية بجامعة أندرسون في مادتي الكيمياء والرياضيات؛ وبَعدها التحق هاريسون بمعهد غلاسكو للميكانيكا، لِيتفَنن في فن الطباعة وتحرير الصحف، حيث عمل فيها بمدينة لندن لمدة عام حتى تم اختياره فيما بعد كمُحرِّر للصحف بمدينة سيدني الأسترالية سنة 1837م.
وقصته كيف أصبح هاريسون مخترعا لآلة صناعة الثلج؟.. اتَّفق ذات يوم أنه كان ينظف أحرف الطابعة المصنوعة من المعدن من الحبر العالق بها، بواسطة سائل الإيثر، فلاحظ أن يده تبرد بشدة؛ وعندما نفخ عليها بفمه تشكَّلت بلورات صغيرة من الجليد؛ فاندهش على إثرها وفكر في صناعة آلة ميكانيكية يمكنها من انتاج الثلج ذاتيا الشكل(1).
كانت فكرة هاريسون ترتكز بالأساس على تخفيض الضغط لسائل الإيثر، مع تحويل حالته من سائلة إلى غازية ثم من غازية إلى سائلة، وفي حركة مستمرة دورية -كما رأينا في السلسلة تعلم1 مع السيد جاكوب بيركيز- لكن ما يميز آلة هاريسون أنها تعمل أوتوماتيكيا وبدون تدخل بشري، فهذا يعتبر فعلا إنجازا عظيما بالنسبة للقرن التاسع عشر.
ب‐ شرح عمل آلة هاريسون
عندما خطرت على صاحبنا صناعة آلة الثلج لم يكن بإمكانه تطبيقها بالعاصمة أستراليا (سيدني)؛ نظرا لضعف قطاع الغيار وبعض المحركات التي يحتاجها؛ لهذا السبب رجع إلى إنجلترا لطلب المساعدة من مهندسي الآلات البخارية؛ فاستطاع عام 1856م من ابتكار أول ماكينة لصنع الثلج، فكانت بالفعل آلة ناجحة حيث تم تسويقها فيما بعد الشكل(2).
تتكون صانعة الثلج هاريسون العملاقة هذه من أربع مكونات أساسية، والتي لا تَخلو منها أية ثلاجة اليوم حتى ولو كانت متطورة: المُبخر.. الضاغط .. المكثف .. والصمام التَمدُّدي .. والفرق الوحيد هو أنه استعمل سائل الإيثر لإنتاج البرودة؛ عكس اليوم حيث يستعملون غاز مركب التبريد ( سنفهم هذا في المستقبل القريب إن شاء الله تعالى).
عندما تُدار عجلة التدوير، إما بالمحرك البخاري أو بناعورة الماء أو بأي شيء يُمَكنُنا من تدويرها؛ عندها يبدأ الضاغط بسحب بخار الإيثر الذي يوجد بالمبخر تحت ضغط منخفض، بعدها يعمل الضاغط على ضخه عبر المكثف بضغط مرتفع وحرارة عالية إلى أن يتم تبريده بواسطة ماء التبريد لينخفض ضغطه، فيبدأ غاز الإيثر في التَحوّل تدريجيا إلى سائل، وبعدها يمر بصمام التَمدُّد اليدوي (كلمة اليدوي تعني أنه يمكننا تغيير صَبِيبه يدويا) لكي يحدث له هبوط مُفاجئ أو حاد في الضغط، ليدخل من جديد إلى المبخر، فيبدأ في الغليان جراء الحرارة التي يأخذها من الوسط الذي يوجد فيها هذا الأخير؛ في مثالنا الماء (لا تقلقوا سنشرح كيف يحدث هذا في السلاسل المقبلة هنا فقط نعرض مراحل تاريخ تطور التبريد).
أما كيف تتكون ألواح الثلج؟ فإن جيمس هاريسون تطرق لحيلة ذكية، حيث أنه استعمل الماء المالح كوسيط ناقل للبرودة ما بين المبخر وقنوات تبريد الماء، اعتمادا على مضخة الماء التي تُدار في نفس الوقت مع عجلة التدوير وتعمل على تدوير الماء المالح باستمرار، لكي يُجمد الماء الذي في قوالب الجليد؛ ولِيُشكل مُكعبات تكون جاهزة للاستعمال (أنظر الشكل(2).
ملاحظة: الماء المالح لا يتجمد بسهولة، ويبقى سائلا خلال عملية التدوير.
ج- فِردينا نْد كَارِيهْ
وهكذا عبر الأزمنة بدأت تظهر للوجود ماكينات بداية التبريد الصناعي؛ وبتطويرها من يَدِ عالم إلى يد الآخر؛ وكل واحد منهم يُحاول قدر المُستطاع تحسينها من الأسوأ إلى الأفضل؛ ليظهر في الساحة نجم الفرنسي اسمه السيد فرديناند كاريه (Ferdinand Carre 1824-1900)؛ هو مهندس صناعي، قام باختراع أول جهاز التبريد الذي يعمل بطريقة الامتصاص (Absorption)؛ حيث استعمل الأمونياك كوسيط التبريد والماء كعنصر ماص الشكل(3).
1859م هي السنة التي حصل فيها كاريهْ على براءة الاختراع، بعد ما سُمح لآلته أن تَكتسِح الأسواق؛ لسبب مهم جدا هو أن ثلاجته آمنة شيئا ما؛ على عكس سابقاتها التي تستعمل غاز الإيثر السام وسريع الانفجار ..! أما طريقة عملها فهي عجيبة جدا، إذ تعتمد على مبدأ امتصاص الماء للأمونياك أو ما يُطلق عليه اسم غاز النشادر بالمصطلح العربي .. لِنرى كيف يحدث هذا الامتصاص؟
د‑ شرح عمل آلة كاريهْ
المعروف عِلميا أن الأمونياك وصيغته NH3 شديد الذوبان في الماء وهو ليس فعّالا بدرجة كبيرة عندما يكون جافا، ولكن عند ذوبانه يتفاعل مع الكثير من المواد الكيميائية؛ وهذا بالضبط ما استغله السيد كاريهْ في عمل ثلاجته، حيث صنعها على هذا المبدأ الذي بالشكل(4).
تختلف آلة كاريهْ هذه عن هاريسون كليا، لأنها لا تعتمد على مبدأ الضغط البخار، بل ترتكز على مبدأ الامتصاص؛ فالشكل(4) يُمثل مُختبر توضيحي لكيفية حدوث عملية الامتصاص؛ فكما نرى في الأعلى عند الرسمة 1 أن هناك حوجلة متصلة بأنبوب في نهايته إناء؛ وإذا تمعنا جيدا أسفل الحوجلة نلاحظ أن هناك موقدا مُشتعلا؛ فماذا يعني هذا؟.
- عند تسخيننا للحوجلة رقم1 تحتوي على محلول مُشبع (ماء+أمونياك)، بنار هادئة - يعني لا تصل إلى درجة غليان الماء- يتسرب منها بخار الأمونياك فقط، ثم يبدأ في الصعود عبر الأنبوب إلى أن يتم تكثيفه عند الإناء رقم2 مُتحولا إلى سائل.
- أما عند الرسمة 2 فتحدث العملية المعكوسة، حيث نعمل هذه المرة على تبريد الحوجلة رقم1 بواسطة مروحة، فنلاحظ أن سائل الأمونياك في الإناء 2 بدأ يتبخر في اتجاه الحوجلة1 مُتكاثفا على جدرانها؛ وفي النهاية يعمل الماء الغير المشبع على امتصاصه ثم يذوب فيه من جديد، تاركا وراءه في الإناء 2 بعضاً من قطع ثلجية؛ لأنه ساعة عملية التحويل من سائل إلى غاز، يأخذ معه حرارة الماء محولا إياه إلى جليد؛ تماما كما يحدث في الدورة المضغوطة.
وخلاصة القول أن الماء في آلة كاريهْ هو المسؤول على امتصاص بخار الأمونياك؛ أما تسخينه فيعمل على تحرير الأمونياك وتحويله إلى بخار.
ه- نظام التبريد الحديث بالامتصاص
في الحقيقة هو ليس نظاما جديدا بل فقط مُطورا، لكن مبدأ التشغيل يبقى نفسه؛ فمع مطلع القرن العشرين انتشرت صناعة آلات الامتصاص، فكانت حقا بداية التبريد بالنسبة للثلاجات المنزلية؛ والشكل(5) يمثل نموذجا لثلاجة الامتصاص تشتغل على مصدرين للطاقة: غاز البوتان - تيار متردد.
ملاحظة: ثلاجة الامتصاص مازالت تُستعمل إلى يومنا هذا، لكونها تحتوي على أربع مصادر الطاقة .. 220 فولط .. 12 فولت .. طاقة شمسية ..موقد غاز البوتان.
و- شرح عمل ثلاجة الامتصاص
في الشكل(6) نبين عمل الدورة المغلقة والمستمرة لثلاجة الامتصاص التي تشتغل بموقد غاز البوتان.
في الحالة التي تكون فيها الثلاجة متوقفة عن العمل، يكون تركيز محلول (ماء+أمونياك) موحد على مستوى دورة المياه، وخصوصا جهة المرجل .. لكن ! ماذا يحدث عندما نُشعل الموقد الغازي؟.
تحت نار هادئة، نوقد الموقد الغازي الذي يوجد أسفل المرجل1، حيث يبدأ القضيب الأصفر يسخن تدريجيا موزعا الحرارة على مستوى المرجل، فنلاحظ أن جزيئات الأمونياك تتحرك متجمعة نحو الأعلى مُستعدة للتحرر من الماء على شكل بخار (أنظر اتجاه السهم باللون البرتقالي) مرورا بجهاز المُكَّرِر 2.
قد يسأل السائل، لماذا الماء لا يتبخر؟ لأنه ببساطة ليس تحت الضغط الجوي بل يوجد في دائرة مغلقة، لهذا يصعب تبخره بسهولة وخاصة أن النار هادئة .. ولكن رغم هذا كله هناك بعض بخار الماء الذي يصعد بصحبة بخار الأمونياك؛ لهذا السبب استعمل العلماء جهاز التكرير رقم 2 الذي يعمل على حبس بخار الماء، والعمل على تقطيره على شكل قطرات ( أنظر نقط زرقاء داخل المُكّرر وحواف المرجل والتي تنزل إلى الأسفل بفعل الجاذبية).
إذن لنكمل دورتنا ونتبع السهم ذا اللون البرتقالي والذي يمثل اتجاه بخار الأمونياك الساخن، ومن تم يدخل هذا الأخير إلى المكثف 3 ليصبح على شكل سائل بعدما يتم تبريده بفعل هواء المحيط (مثلا 25 درجة مئوية) الذي يمر عبر أمشاط حديدية التي تبرز من جسم المكثف.
اللون البني الغامق أسفل المكثف يُمثل سائل الأمونياك، والذي يتجه إلى المبخر 4 ( اتبعوا السهم البني)؛ ثم يخرج من فتحة الأنبوب الذي بالأعلى بضغط عال، مُتجها إلى داخل المبخر حيث يلتقي بغاز الهيدروجين (نمثله بنقط خضراء صغيرة داخل المبخر).
هنا الهيدروجين يلعب دورا مهما جدا حيث يتحد مع سائل الأمونياك المُركز، فيعمل على خفض ضغطه ليُساعد على تبخره إلى درجات حرارة منخفضة جدا، وفي هذه اللحظة بالذات - أي اللحظة التي يتحول فيها إلى بخار- يمتص الحرارة من المحيط الذي يوجد به المبخر ( مثلا من المواد الغذائية) لينتج عن ذلك البرودة.
وبعدها يتجه بخار الأمونياك وغاز الهيدروجين إلى المُبادل الحراري (حالة غازية)؛ عبر فتحة توجد أسفل المبخر ( أنظر الشكل(6)؛ السهم الأخضر والبرتقالي)؛ ومن تم يتجهان إلى الخزان فيغيران الاتجاه ..!؛ حيث يتجه الهيدروجين إلى الأعلى لكونه خفيف جدا، أما بخار الأمونياك فيتم امتصاصه بواسطة الماء ( لهذا السبب سُميت باسم ثلاجة الامتصاص).
هنا انتبهوا معي جيدا لأنها أهم نقطة في الدارة؛ اتبعوا السهم الأخضر الذي يمثل دورة غاز الهيدروجين، ستجدونه يسلك طريقه من فتحة في أعلى الخزان متجها إلى المبخر عبر مواسير الربط، ليبقى في المبخر منتظرا الدورة المقبلة لسائل الأمونياك لتتكرر نفس العملية السابقة؛ لنتبع الآن طريق بخار الأمونياك؛ كما قلنا قبل قليل أن الماء امتص بخار الأمونياك، لكن السؤال هو كيف وصل هذا الماء إلى هذه النقطة؟
برجوعنا إلى أول بداية الدورة أي جهة المرجل؛ وبما أننا نستعمل الموقد الغازي فمن الطبيعي أن يرتفع الضغط، وبالتالي يعمل على تمدد الماء، فيبحث عن أول فرصة للخروج فيتجه جهة أسفل المرجل ( السهم بلون الأزرق)، عبورا بالمبادل الحراري (حالة سائلة)، ومن تم يصب في الخزان الرئيسي ليختلط مع غاز الأمونياك، ليتحول من جديد إلى محلول المشبع؛ ويمكننا القول أن عملية التسخين تتصرف كمضخة حرارية لكي تستمر عملية انتاج البرودة .. حقا الآن يُمكننا القول أننا حققنا بداية التبريد.
تأليف: محمد بلحاج تقني
المراجع:
Eléments De Théorie des Machines Frigorifiques....Par F . Ghilardi Paris-
Formulaire du Froid.....P. Rapin Paris-
سلسلة الوحدات التدريبية المتكاملة: تشغيل ثلاجة بالامتصاص المنزلية ..مرزوق عبد العزيز محمد السروري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق