وِلادة الكهرباء
في هذه السلسلة سنتطرق إلى موضوع مهم جدا ألا وهو ولادة الكهرباء؛ لَطالما كانت مَحل تساؤل بين مختلف شرائح المجتمع، وخاصة مَن كان منهم يهتم بمجال الكهرباء، سواء كان مختصا أو هاويا، طالبا أو عاملا؛ ولهذا السبب سندرسها إن شاء الله تعالى في سلاسل -أنت والعلم- المقبلة بجميع أجزائها ومِن أول بداية لها، وحتى آخر نقطة استهلاكها سواء على مستوى المنازل السكنية أو المنشآت التجارية والصناعية.
1) فَذلَكة تاريخية
قبل أن نتعمق في معرفة أساسيات الكهرباء، لابد لنا من معرفة تاريخها وماهيَّتها ومن أين جاءت؟ وماهي طبيعتها؟ حتى يسهل علينا دراستها وتطبيقها في حياتنا المهنية واليومية.
أ⁃ وِلادة الكهرباء la naissance de l'électricité
الكهرباء هو «الكَهْرَمانْ» مادة ذات أصل نباتي، ويُقال إنه بقايا متحجرة من نوع من الصمغ «الرانتج Résine»؛ كان يتكوّن في أنواع منقرضة من أشجار الصنوبر.
وقديما عرف اليونانيون هذه المادة واستخدموها للزينة؛ وعرفوا عنها حقيقية واحدة وهي، أنه إذا أخدت قطعة من الكهرمان ودلكتها بشدة من نسيج الصوف وقربتها بعد ذلك إلى قصاصات الورق،انجذبت إليها؛ وطريقة الدَلكِ هذه تعتبر أول مؤشر لظهور الكهرباء الساكنة l'électricité statique.
وكان طاليس الفيلسوف اليوناني «640-546 ق.م»، أول من كتب عن هذه الخاصية وذلك بعد أن لاحظ أن الأدوات المصنوعة من الكهرمان، تكتسب تلك القدرة بعد دلكها للتنظيف؛ وإلى عام 1600 بعد الميلاد؛ كان المُعتقد أن الكهرمان هو المادة الوحيدة التي يمكن أن تتضح فيها هذه الخاصة.
ولكن الدكتور ويليام جلبرت «William Gilbert» الشكل (1)؛ أثبت في تلك السنة أن هناك مواد كثيرة يمكن أن تظهر فيها تلك الخاصة بالدَلْك، ومن تلك المواد الزجاج، وشمع الختم، والكبريت والراتنج.
|
الشكل(1): ويليام جلبرت |
وهو الذي سمى تلك الخاصة باسم الكهربية نسبة إلى مادة الكهرباء؛ وقد وجد جلبرت أن المعادن إذا قُبض عليها باليد ودُلكت بالصوف أو غيره لا تظهر عليها آثار الكهربية؛ ولذلك سماها مواد غير قابلة للتكهرب.
وهذا خطأ وقع فيه جلبرت لأنه حينها كان يصعب عليه إدراك أن الشحن لا يمكنها الاستقرار على المعدن، بل تتسرب منه أولا بأول على الأرض عن طريق جسم الإنسان؛ ولم يصححه إلا العالم الفرنسي دى فاى «1698-1739م» الذي بين أن الأجسام كلها قابلة للتكهرب؛ وإنما تنقسم إلى قسمين رئيسيين وهما الأجسام العازلة مثل الكهرمان، والزجاج، والكبريت، وأجسام موصلة للكهربية مثل المعادن.
ب⁃ التطبيق العَملي
استطاعوا في ذلك الوقت أن يبرهنوا على قانون التجاذب والتنافر الكهربيين، بطرق قد تبدوا لنا بسيطة ولكنها بالنسبة لهم حَدث علمي.
صنعوا حمالة من الخشب شكل (2)، بها صنارة يتدلى منها خيط من حرير مُعلق به ساق من زجاج، بعد أن دَلكوه بِدالِكة من حرير ثم قربوا منه ساقا أخرى من زجاج مَدلوك هذه المرة بقطعة من صوف، فلاحظوا أن الساق المدلوكة بالحرير تنجذب إلى التي دُلكت بالصوف.
|
الشكل(2): تجاذب بين قطعتين من زجاج، الواحدة مدلوكة بقطعة من حرير والأخرى من قطعة من صوف. |
استعاضوا عن الساق الزجاج المدلوكة بالصوف بأخرى من «الراتِنْجْ» (صمغ الكهرمان)، بعد دلكها بالصوف وقربوها من ساق الزجاجية المدلوكة بالحرير، فانجذبت هذه الأخيرة إلى الرانتج الشكل (3).
|
الشكل(3): تجاذب بين قطعة الراتِنْجْ (كهرمان) مدلوكة بالصوف وقطعة زجاج مدلوكة بالحرير. |
من هذا استنتجوا أن ساق الزجاج المدلوكة بالحرير تنجذب إلى كل من ساق الزجاج وساق الراتنج المدلكتين بالصوف؛ ومن ذلك يمكن أن نستنتج أن الشحنات المختلفة تتجاذب.
نُدْلِك ساقا من الزجاج بالحرير ونعلقها كالعادة الشكل (4)؛ ثم ندلك ساقا أخرى من الزجاج كذلك بالحرير، ونقربها من الأولى فنلاحظ أنهما يتنافران.
|
الشكل(4): تنافر ساقان من الزجاج مَدْلوكَتان بقطعة من حرير |
نعيد نفس العمل مستعملين ساقين من الراتنج ندلكهما بالصوف فنرى الساق المعلقة تبتعد عن الأخرى الشكل (5).
|
الشكل(5): تنافر ساقان من الراتنج مدلوكتان بقطعة من صوف |
نستنتج أنه إذا دلكنا ساقان من مادة واحدة بدالِكة من نوع واحد، فإن إحدى الساقين تتنافر مع الأخرى إذا قُربت إليها؛ وعلى ذلك يمكن أن يُقال إن الشحنات الكهربية المتشابهة تنشأ من أجسام من مادة واحدة تُدلك من دالِكٍ من مادة واحدة.
ونستنتج من هذا كله أن هناك قانون التجاذب والتنافر الكهربيين؛ فلا شك أن الكهرباء التي تحدث على الراتنج إذا دُلكت بالحرير، تختلف عن الكهربية التي تحدث على الراتنج إذا دُلك بالصوف؛ ويدل هذا على أن الكهربية نوعان:
النوع الأول: كهربية تحدث على الزجاج عند دلكه بالحرير.
النوع الثاني: كهربية تحدث على الراتنج عند دلكه بالصوف.
وكانت كهربية النوع الأول تسمى كهربية الزجاجية، والنوع الثاني تسمى كهربية راتنجية؛ إلا أنه قد وِجد أن اختلاف الدالكة يسبب اختلاف نوع الكهربية التي يشحن بها الجسم الواحد.
ولهذا السبب وللتمييز بين هذين النوعيين سُميت الكهربية الزجاجية كهربية الموجبة، ويرمز لها بعلامة (+) سواء حدثت على مستوى الزجاج أو على مادة أخرى؛ كما سميت الكهربية الراتنجية باسم الكهربية السالبة، ويرمزلها بالعلامة (-) سواء حدثت على الراتنج أو على مادة أخرى وكانت هذه أول العلامات التي استنتجت بعد ولادة الكهرباء .
ومع مرور الوقت بدأ عصر التطبيقات العلمية يتسع شيئا فشيئا، فظهرت للوجود بعض الآلات لتوليد الكهربية، وهي أجهزة الغرض منها الحصول على مقادير من الكهرباء الساكنة أكبر مما يمكن الحصول عليها بطرق الدلك السابق شرحها.
ج⁃ آلة (رامِسْدِنْ Ramsden)
صنعها جيسي رامسدن (1735-1800م) في عام 1768م الشكل (6)؛ وتُعتبر من أوائل المولدات الكهرباء الساكنة؛ حيث تعتمد على دوران قرص من الزجاج حول أربع وسادات من الجلد مطلية بثاني كبريتيد القصدير؛ عندها يتم الاحتكاك بين القرص الزجاجي، ووسائد الجلدية، فتنشأ حينذاك شحنات موجبة على وجه القرص الزجاجي، فتنتقل من هذا الأخير (بالتأثير) عبر أمشاط من السبائك المعدنية إلى الأسطوانتين من النحاس المحمولتين على أربع أرجل من الزجاج التي تعمل عمل العوازل.
وهكذا تنتهي الرحلة الصغيرة للشحنات الموجبة، إلى أن تصل إلى كويرة التفريغ الكهربي حيث يمكننا من تفريغها إذا ما قربنا إليها قضيب به كويرة من المعدن مثلا؛ فنرى حدوث شرارة كبرق صغير.
|
الشكل(6): آلة رامِسْدِنْ |
د⁃ آلة وِيمزْهرسْـت Wimshurst
تتركب هذه الآلة الشكل (7) من قرصين من الزجاج المطلي (بالوَرْنِيش Vernis)؛ موضوعين متوازيين وكل منهما رأسي ويَدوران في اتجاهين متضادين وقد لصقت على وجهيهما الخارجيين أشرطة من القصدير.
|
الشكل(7): آلة وِيمزْهرسْت |
وتتضح هذه الأشرطة في الشكل فالمظلمة منها هي الملصقة على الوجه الخلفي من أبعد القرصين؛ أما غير المظلمة فهي الملصقة على الوجه الأمامي من أقرب القرصين؛ ويوجد ساقان من المعدن متعامدتان إحداهما مواجهة لأحد القرصين والثانية مواجهة للقرص الثاني؛ وتنتهي كل منها بفِرْجَوْنٍ ( أداة لها أسنان من حديد تستعمل عادة للتنظيف)؛ تُلامس أشرطة القصدير عند دوران القرص.
ولهذه الآلة مستودعان؛ كل منها عبارة عن مشط يدور القرصان بين أسنانه، ويتصل كل مشط بزجاجة لَيْدِن ( تُعتبر من أقدم أنواع المكثفات هنا)؛ وهذا يساعد على توليد شرارات قوية بين الكرتين المعدنيتين؛ ويمكن تحريك الساق بمقبض عازل بحيث تقترب إحدى الكرتين إلى الأخرى، تبتعد عنها حسب الإرادة.
ويسهل فهم عمل الآلة بالرجوع إلى الشكل(8)، وقد مُثل فيه القرصان بدائرتين إحداهما أصغر وتمثل القرص القريب، والأخرى أكبر وتمثل القرص البعيد من الآلة، ويدوران في اتجاهين متضادين كما هو مبين بالسهام المرسومة.
|
الشكل(8): رسم توضيحي يفسر عمل آلة وِيمزْهرسْت |
ويكفي لبدء تشغيل الآلة أن يكون أحد أشرطة القصدير مشحونا بالكهربية ( الغالب أن تبدأ آلة ويمزهرست العمل من نفسها فإذا وجدت صعوبة في بدء العمل فإنه يحسن أن تقرب ساقا من الأبونيت مكهربة إلى القرص الأمامي في مواجهة الفرجون D3).
فإذا فرض أن أحد الأشرطة A على القرص الخلفي مُحمل بشحنة موجبة صغيرة، فعندما يتحرك هذا الشريط حتى يصل أمام الفرجون D1 فإنه يؤثر في الشريط B الملامس لذلك الفرجون، فيجذب في B كهربية سالبة ويطرد كهربية موجبة للشريط C الملامس للفرجون D2.
وعندما يترك هذان الشريطان (BوC) الفرجونين (D1وD2) متجهين بالدوران في اتجاهين متضادتين، فإنهما يصلان إلى وضعين مقابلين للفرجونين (D2وD1)، فيتحمل الشريطان الملامسان لهذين الفرجونين بكهربية موجبة وسالبة بالترتيب ويحتفظان بشحنتهما بعد أن يتركا الفردونين.
وبعد دورة أو اثنتين تكون كل الأشرطة المتجهة نحو المشط الأيسر (H) مُتحملة بالكهربية الموجبة، وكل الأشرطة المتجهة نحو المشط الأيمن (G) تكون متحملة بكهربية سالبة.
وعند مرور الأشرطة بين أسنان المشط تعمل بالتأثير، فتجذب في أطراف الأسنان كهربية مخالفة لكهربية الشريط، وتطرد كهربية مشابهة لها إلى الكرة المتصلة بالمشط.
أما كهربية الأسنان فتتعادل مع كهربية الأقراص نفسها وعلى ذلك تبقى على إحدى الكرتين ('F) كهربية موجبة وعلى الكرة الثانية (F) كهربية سالبة.
وتتولد بين (F,'F) شحنات يكون فرق جهدها عاليا جدا يتراوح بين 4000 و50000 فولت؛ ولكن تيارها ضعيف لا يسبب أي ضرر للإنسان، يُحسب بالميكرو أمبير.
ها نحن قد انتهينا من وِلادة الكهرباء الساكنة وسننتقل إلى الكهرباء الحركية أو التيارية électricité dynamique؛ في السلاسل أنت والعلم القادمة إن شاء الله تعالى.
تأليف: محمد بلحاج ⁃ تقني.
المراجع:
- Ficsica Razonada Mir peña
- الطبيعة التوجيهية: المغنطيسية والكهرباء محمد محمد فياض بيك.